الجزائر تحت أقدام العسكر.. حين تتحول لغة الحرب إلى سلاح لقمع الشعب

في الجزائر، لم تعد لغة الحرب مجرد وسيلة للتعبير عن توتر إقليمي أو قلق ظرفي، بل أصبحت عقيدة سياسية ثابتة، يُبنى عليها مشروع كامل لتكريس حكم الجنرالات وتخدير وعي الجزائريين. فبينما تعيش البلاد على صفيح اقتصادي واجتماعي ملتهب، اختار النظام أن يشيّد سُلطته على الخوف، متخذًا من “الخطر الخارجي” ذريعة لإسكات كل الأصوات الحرة وتجريم كل معارضة.
لماذا هذا التركيز المرضي على التهديدات والمؤامرات؟ ببساطة، لأن النظام الجزائري لا يملك مشروعًا وطنيا، ولا رؤية تنموية، ولا قدرة على الإجابة عن أسئلة المواطن اليومية: الخبز، الشغل، الكرامة، الحرية. في غياب كل هذا، تصبح “الحرب” أفضل ترياق لتخدير الشعوب.
ترسانة تُبنى، ومجتمع يُخنق
في خضم كل هذا، تُسَخَّر مليارات الدولارات من أموال الجزائريين لتكديس السلاح، بحجة “تعزيز القدرات الدفاعية”، بينما يرزح الشعب تحت أعباء المعيشة المنهارة، ويفتقد أبسط مقومات الحياة الكريمة. الإنفاق العسكري الهائل لا يُقابله أي استثمار في التعليم أو الصحة أو السكن، لأن أولويات الجنرالات لا علاقة لها بالمواطن، بل باستدامة القبضة الحديدية التي يُحكم بها البلد منذ الاستقلال.
العدو المفترض: ورقة العسكر الرابحة
لجأ النظام إلى اختراع “عدو خارجي دائم”، وغالبًا ما يكون المغرب هو الهدف الجاهز. يتهم بـ”محاولة زعزعة استقرار الجزائر”، في حملة منظمة لا تهدف سوى إلى تأليب الداخل وصرف الأنظار عن أزمات النظام الحقيقية. فحين لا يجد النظام ما يبرر به فشله في الداخل، يشعل نار الفزاعة الخارجية، ويطلب من المواطنين أن يصطفوا خلفه كما تصطف الأغنام نحو المجزرة.
قانون التعبئة.. شرعنة الاستبداد
ما يُقلق أكثر هو أن هذا الخطاب الحربي لم يبق مجرد دعاية إعلامية، بل تُرجم إلى ترسانة قانونية ترسّخ حكم القبضة الأمنية، كما في “قانون التعبئة”، الذي يتيح للنظام إعلان حالة الطوارئ متى شاء، واعتقال من يشاء، ومنع أي احتجاج أو تجمع أو رأي مخالف، بدعوى “الوضع الحساس”. هكذا تتحول الحرب من خيال خارجي إلى واقع داخلي يمزق ما تبقى من الحريات.
دبلوماسية على الورق.. تدخل سافر في شؤون الدول
وبينما تدّعي الجزائر رسمياً احترام مبدأ عدم التدخل في شؤون الغير، نجدها غارقة حتى أذنيها في دعم جماعات انفصالية وتمويل أذرع تخريبية في الجوار الإفريقي. من مالي إلى النيجر، مرورًا ببوركينا فاسو، لم تترك المخابرات الجزائرية ساحة إلا وعبثت بها. لكنها سرعان ما اصطدمت بواقع العزلة الإقليمية، بعد أن قررت هذه الدول قطع علاقاتها معها، وتشكيل جبهة مضادة في وجه هذا النفوذ المسموم.
جيش فوق الدولة
ما تروج له وزارة الدفاع من شعارات “الجيش الحامي للوطن” ليس إلا ستارًا يتخفى خلفه نفوذ عسكري منفلت من كل رقابة. المؤسسة العسكرية في الجزائر ليست تحت سلطة الشعب، بل تضع الشعب والدولة تحت وصايتها. تحكم، وتُعيّن، وتُقصي، وتُبرمج الرؤساء كما تُبرمج المناورات الحربية. إنها سلطة بلا مساءلة، وسلاح بلا أخلاق.
بينما يروّج النظام لصورة الجزائر المستهدفة من الخارج، الحقيقة التي يعرفها كل جزائري هي أن القمع الحقيقي يأتي من الداخل، من نظام عاجز عن إطعام شعبه، لكنه يطلب منه أن يموت من أجل “كرامة مزعومة”. إنها مفارقة النظام الجزائري: يطلب من شعبه أن يدافع عن “وطن” لا يملك فيه شيئًا.
إن الخطاب الحربي الجزائري ليس ناتجًا عن تهديد حقيقي، بل هو تهديد بحد ذاته. تهديد للحريات، تهديد للعقل، تهديد لكل من يجرؤ على قول “لا”. إنه خطاب عتيق، ينتمي لعصر انتهى، لكنه لا يزال يُستخدم في بلد حُرِم من الدخول إلى المستقبل، لأن الماضي يرفض أن يُغادر قصر المرادية.